فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} أي لا هي مطلقة ولا ذات زوج؛ قاله الحسن.
وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء؛ لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما عُلِّق عليه انحمل؛ وهذا مطّرد في قولهم في المثل: «ارض من المركب بالتعلِيق».
وفي عرف النحويين فمن تعليق الفعل.
ومنه في حديث أُم زَرْع في قول المرأة: زوجي العَشَنَّق، إن أنْطِقْ أُطَلَّقْ، وإن أسكت أُعَلَّقْ.
وقال قتادة: كالمسجونة؛ وكذا قرأ أُبيّ {فَتَذَرُوهَا كَالْمَسْجُونَةِ}.
وقرأ ابن مسعود {فَتَذَرُوها كأنها معلقة}.
وموضع {فتذروها} نصب؛ لأنه جواب النهي.
والكاف في {كالمعلقة} في موضع نصب أيضًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} أي تمامَ العدل.
وجاء بـ (لن) للمبالغة في النفي، لأنّ أمر النساء يغالب النفس، لأنّ الله جعل حُسن المرأة وخُلقها مؤثّرًا أشدّ التأثير، فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح، وأخرى ثقيلة حمقاء، فتفاوتهنّ في ذلك وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتًا في محبّة الزوج بعض أزواجه، ولو كان حريصًا على إظهار العدل بينهنّ، فلذلك قال: {ولو حرصتم}، وأقام الله ميزان العدل بقوله: {فلا تميلوا كلّ الميل}، أي لا يُفْرط أحدكم بإظهار الميل إلى أحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة.
فظهر أنّ متعلّق {تميلوا} مقدّر بإحداهنّ، وأنّ ضمير {تذروها} المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة، وهو إيجاز بديع.
والمعلّقة: هي المرأة التي يهجرها زوجها هجرًا طويلًا، فلا هي مطلّقة ولا هي زوجة، وفي حديث أمّ زرع «زوجي العَشَنَّق إنْ أنطِقْ أطَلَّقْ وإن أسكُتْ أعَلَّقْ»، وقالت ابنة الحُمَارس:
إنّ هي إلاّ حِظَةٌ أو تَطليق ** أو صلَف أو بينَ ذاك تَعْليق

وقد دلّ قوله: {ولن تستطيعوا} إلى قوله: {فلا تميلوا كلّ الميل} على أنّ المحبّة أمر قهري، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسبابًا توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء، فلا يُكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان، ولكنّ من الحبّ حظًّا هو اختياري، وهو أن يَرُوض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته، وتحمُّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختيارًا بطول التكرّر والتعوّد.
ما يقوم مقام الميل الطبيعي.
فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله: {فلا تميلوا كلّ الميل}، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء وَلَوْ حَرَصْتُمْ}
هذا العدل الذي ذكر تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة، والميل الطبيعي. لأنه ليس تحت قدرة البشر بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3]. أي: تجوروا في الحقوق الشرعية، والعرب تقول: عال يعول إذا جار ومال، وهو عائل، ومنه قول أبي طالب:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة ** له شاهد من نفسه غير عائل

أي: غير مائل ولا جائر، ومنه قول الآخر:
قالوا تبعنا رسول الله واطرحوا ** قول الرسول وعالوا في الموازين

أي: جاروا، وقول الآخر:
ثلاثة أنفس وثلاث ذود ** لقد عال الزمان على عيالي

أي: جار ومال. أما قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري:
وما يدري الفقير متى غناه ** وما يدري الغني متى يعيل

وقول جرير:
الله نزل في الكتاب فريضة ** لابن السبيل وللفقير العائل

وقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فأغنى} [الضحى: 8] فكل ذلك من العيلة، وهي الفقر. ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} [التوبة: 28] الآية. فعال التي بمعنى جار واوية العين، والتي بمعنى افتقر يائية العين.
وقال الشافعي- رحمه الله- معنى قوله: {أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3]. أي: يكثر عيالكم من عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقول بعضهم: إن هذا لا يصح وإن المسموع أعال الرجل بصيغة الرباعي على وزن أفعل فهو معيل إذا كثر عياله فلا وجه له. لأن الشافعي من أدرى الناس باللغة العربية. ولأن عال بمعنى كثر عياله لغة حمير، ومنه قول الشاعر:
وأن الموت يأخذ كل حي ** بلا شك وإن أمشى وعالا

يعني: وإن كثرت ماشيته وعياله، وقرأ الآية طلحة بن مصرف ألا تعيلوا بضم التاء من أعال إذا كثر عياله على اللغة المشهورة. اهـ.

.قال الزمخشري:

وروى أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال، فقالت عائشة رضي الله عنها: أإلى كل أزواج رسول الله بعث عمر مثل هذا؟
قالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره، فقالت: ارفع رأسك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه.
فرجع الرسول فأخبره، فأتم لهن جميعًا وكان لمعاذ امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد. اهـ.

.قال الفخر:

{وَإِن تُصْلِحُواْ} بالعدل في القسم {وَتَتَّقُواْ} الجور {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض.
وقيل: المعنى: وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة، وتتقوا في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك، وهذا الوجه أولى لأن التفاوت في الميل القلبي لما كان خارجًا عن الوسع لم يكن فيه حاجة إلى المغفرة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} أي لا تقدروا ألبتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب (إحداهن) في شأن من الشؤون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه.
وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال: لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: في الجماع، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا: في المحبة، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها أكثر من غيرها، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» وعنى صلى الله عليه وسلم: «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير الاختياري {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} على إقامة ذلك وبالغتم فيه {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها، وانتصاب {كُلٌّ} على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره {فَتَذَرُوهَا} أي فتدعوا التي ملتم عنها {كالمعلقة} وهي كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التي ليست مطلقة ولا ذات بعل، وقرأ أبيّ كالمسجونة وبذلك فسر قتادة المعلقة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالًا من الضمير المنصوب في {تذروها} وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير، وحذف نون {تذروها} إما للناصب وهوأن المضمرة في جواب النهي، إما للجازم بناءًا على أنه معطوف على الفعل قبله، وفي الآية ضرب من التوبيخ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط»، وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال: كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل، وعن مجاهد قال: كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى.
{كالمعلقة وَإِن تُصْلِحُواْ} ما كنتم تفسدون من أمورهن {وَتَتَّقُواْ} الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُورًا} فيغفر لكم ما مضى من الحيف {رَّحِيمًا} فيتفضل عليكم برحمته. اهـ.

.قال الخازن:

فصل فيما يتعلق بحكم الآية:
وجملته أن الرجل إذا كان تحته امرأتان أو أكثر يجب عليه التسوية بينهن في القسم فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم عصى الله عز وجل في ذلك وعليه القضاء للمظلومة والتسوية شرك في البيتوتة أما في الجماع فلا لأن ذلك يدور النشاط وميل القلب وليس ذلك إليه ولو كان في نكاحه حرة وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة.
وإذا تزوج جديدة على قديمات كن عنده فإنه يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال إن كانت الجديدة بكرًا وإن كانت ثيبًا خصها بثلاث ليال ثم إنه يستأنف القسم ويسوي بينهن ولا يجب عليه قضاء عوض هذه الليالي للقديمات ويدل على ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا وقسم» قال أبو قلابة ولو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرجاه في الصحيحين.
وإذا سافر الرجل إلى سفر حاجة جاز له أن يحمل معه بعض نسائه بشرط أن يقرع بينهن ولا يجب عليه أن يقضي للباقيات عوض مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في البلد على مدة المسافرين ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه».
أخرجه البخاري مع زيادة فيه.
وإذا أراد الرجل سفر نقلة وجب عليه أخذ نسائه معه. اهـ.
فصل في ذكر استدلال من استدل من هذه الآية على تكليف ما لا يطاق:

.قال الثعلبي:

قالوا: قال الله عز وجل: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فلا تميلوا كُلَّ الْمَيْلِ} فأمرهم الله عز وجل أن يعدلوا، وأخبر أنهم لا يستطيعون أن يعدلوا فقد أمرهم بما لا يستطيعون وكلفهم ما لا يطيقون.
إن قال قائل: هل كلف الله الكفار ما لا يطيقون؟
قيل له: إن أردت أنه كلفهم ما لا يطيقون لعجز حائل وآفة مانعة، فلا، لأنه قد صحح أبدانهم وأكمل نطقهم وأوجدهم (في الأرض) ودفع عنهم العلل والآفات، وإن أردت أنه كلّفهم ما لا يقدرون عليه بتركهم له واشتغالهم بضدّه، فقد كلفهم ذلك.
فإن قالوا: أفيقدر الكافر لا يتشاغل للكفر؟
قيل لهم: إن معنى لا يتشاغل بالكفر هو أن تؤمن فكأنكم قلتم: يقدر أن يؤمن وهو مقيم على كفره فقد قلنا إنه مادام مشغولًا بكفر ليس بقادر على الإيمان على ما جوزت اللغة من أن الإنسان قادر على الفعل بمعنى أنه إن لم يفرط فأثر فيه كما قالوا فلان يقدر على رجل يعني يقدر عليه لو رامه وقصد إلى حمله، نظير قولهم: فلان يفهم أي إنه يفهم الشيء، إذا أُورد عليه، وكذلك يقولون: الطعام مشبع، والماء مروي، ويعني في ذلك أن الطعام يشبع إذا أُكل. والماء يروي إذا شرب.
والذي يوضح ذلك ما يتداوله الناس بينهم من قول الرجل: قم معي في حال كذا، والجواب: لا أقدر على المجيء معك لما أنا فيه من الشغل، وقد قال الله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} يعني القبول لاستثقالهم إيّاه، ومن المشتبه من (قال:) وهل يقدر الكافر على الإيمان؟
يقول: إن أرادهُ كان قادرًا عليه، فإذا قال له: فيقدر أن يريده؟
قال: إن كره الكفر، وإذا قيل له: هل يقدر على الكفر؟
قال: يقدر على ذلك إن أراد الإيمان، فكلّما كرّر عليه السؤال كرّر هذا الجواب. اهـ.